سدي تيمان- تعذيب الأسرى الفلسطينيين، تحقيق إسرائيل وتجاهل دولي؟

المؤلف: د. محمود الحنفي10.17.2025
سدي تيمان- تعذيب الأسرى الفلسطينيين، تحقيق إسرائيل وتجاهل دولي؟

أحدث اقتحام نفذه متطرفون إسرائيليون يمينيون، تدعمهم شخصيات وزارية رفيعة المستوى وأعضاء من الكنيست، لمعسكر "سدي تيمان" في النقب، في أعقاب التحقيق مع جنود متهمين بممارسات تعذيب مميتة ضد أسرى من غزة، عصفًا من الجدل المتصاعد حول مدى تقيد الجيش الإسرائيلي وأجهزته الأمنية بالضوابط المتعلقة بالاحتجاز والتحقيق.

فقد بادرت الشرطة العسكرية الإسرائيلية إلى توقيف عشرة جنود من داخل المعسكر المذكور، وذلك للتحقيق معهم بشأن اتهامات بالتعذيب الذي أفضى إلى وفاة أسرى من غزة، إلا أن الجنود المتهمين رفضوا الانصياع والتعاون مع الشرطة العسكرية في التحقيقات.

وقد سلطت هذه الواقعة الضوء الساطع على الأوضاع المأساوية للأسرى الفلسطينيين بصورة عامة، والمعتقلين القادمين من غزة على وجه الخصوص، حيث كشفت تقارير موثوقة صادرة عن هيئات دولية، بالإضافة إلى شهادات حية من أفراد أُطلق سراحهم، عن الظروف المروعة التي يعيشها هؤلاء الأسرى في مراكز التوقيف، ولا سيما داخل معسكر "سدي تيمان" سيئ السمعة.

وكما ذكرنا آنفًا، أثارت هذه الحادثة أيضًا تساؤلات عميقة حول مدى جدية الحكومة الإسرائيلية في التعامل مع الاتهامات الخطيرة الموجهة إلى جيشها وأجهزتها الأمنية، والمتعلقة بممارسة أساليب التعذيب الوحشية ضد الأسرى الفلسطينيين. وهل يمكن لتشكيل لجنة تحقيق داخلية أو اتخاذ إجراءات شكلية أن يغني عن تشكيل لجان تحقيق دولية مستقلة؟ أم أن الأمر برمته ليس سوى تمثيلية هزلية رديئة الإخراج، كشفها اليمين المتطرف بصلفه وغبائه؟

كشفت لجنة تحقيق إسرائيلية، يرأسها القاضي المتقاعد إيلان شيف، عن الأوضاع القاسية وغير الإنسانية التي يعاني منها المعتقلون الفلسطينيون القادمون من قطاع غزة في معسكر "سدي تيمان" الواقع في جنوب إسرائيل، وأوصت بضرورة إغلاق هذا السجن ونقل جميع المعتقلين إلى مصلحة السجون الإسرائيلية.

أولًا: المركز القانوني للأسرى الفلسطينيين

تتعنت سلطات الاحتلال وترفض بشدة معاملة المقاتلين الفلسطينيين وفقًا لبنود اتفاقية جنيف الثالثة، مستندة في ذلك إلى زعمها بأن صفة أسرى الحرب لا تنطبق إلا على أفراد القوات المسلحة النظامية وأعضاء حركات المقاومة المنظمة التابعة لأحد أطراف النزاع. وبما أن المقاومين الفلسطينيين، وفقًا للرواية الإسرائيلية، لا ينتمون إلى أي دولة ذات سيادة، فإنهم يصبحون غير مؤهلين للحصول على الوضع القانوني الذي يكفله القانون الدولي لأسرى الحرب، ويُعتبرون بالتالي مقاتلين غير شرعيين. وبناءً على ذلك، لا يتطلب الأمر لاحتجازهم في السجون الإسرائيلية – بحسب القانون الإسرائيلي – سوى أمر اعتقال بسيط يحمل توقيع رئيس الأركان.

وقد شهدت السجون الإسرائيلية اعتقال العشرات من الفلسطينيين القادمين من قطاع غزة بموجب هذا القانون الجائر، وذلك أثناء العدوان الإسرائيلي الشرس في عام 2008، وتبع ذلك اعتقال الآلاف بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولا يقتصر الأمر على العمليات العسكرية واسعة النطاق، بل إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تلجأ إلى استخدام إجراء الاعتقال الإداري بشكل واسع النطاق وروتيني، وهو إجراء طال على مر السنين آلاف الفلسطينيين الأبرياء الذين احتجزوا لفترات مطولة دون تمكينهم من ممارسة حقهم في الدفاع عن أنفسهم في مواجهة الادعاءات السرية والواهية الموجهة إليهم.

وفي الأول من مارس/آذار من عام 2023، صادقت الهيئة العامة للكنيست في قراءة تمهيدية على اقتراح قانون مشؤوم للعقوبات، ينص على فرض عقوبة الإعدام على الأسرى الفلسطينيين، وهو اقتراح يقف وراءه حزب "الصهيونية الدينية" المتطرف الذي يتزعمه بتسلئيل سموتريتش. ويُعتبر هذا المشروع جزءًا لا يتجزأ من اتفاق تشكيل الائتلاف الحكومي مع حزب الليكود اليميني المتطرف، برئاسة بنيامين نتنياهو، وحزب قوة يهودية الفاشي بزعامة إيتمار بن غفير.

وعلى الرغم من أن هذا القانون لم يتم تمريره بشكل نهائي، واعتبرته أوساط سياسية إسرائيلية بأنه مجرد إجراء شعبوي دعائي، إلا أنه يشكل بيئة خصبة لتشجيع العنف والتعذيب المنظم ضد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين. ومما يزيد الطين بلة، فإن وصف وزير الدفاع الإسرائيلي لسكان قطاع غزة بأنهم مجرد "حيوانات بشرية" لا يعني بالنسبة للجنود والسجانين سوى أمر واحد واضح: وهو أن هؤلاء الفلسطينيين يجب قتلهم بكل الوسائل المتاحة، إما عن طريق القصف العشوائي أو التجويع المتعمد أو التعذيب حتى الموت.

ثانيًا: مجزرة "سدي تيمان" الحقوقية

كشفت لجنة تحقيق إسرائيلية، برئاسة القاضي المتقاعد إيلان شيف، عن الأوضاع القاسية التي يعاني منها المعتقلون الفلسطينيون القادمون من قطاع غزة في معسكر "سدي تيمان" الواقع في جنوب إسرائيل، وأوصت بضرورة إغلاق هذا السجن ونقل جميع المعتقلين إلى مصلحة السجون الإسرائيلية.

وتواترت تقارير عديدة تتحدث عن الظروف غير الآدمية لاحتجاز المعتقلين في هذا المعسكر سيئ السمعة، حيث يظل الأسرى مكبلي الأيدي ومعصوبي الأعين طوال الوقت في منشآت مؤقتة تفتقر إلى أدنى الشروط المناسبة لحياة الإنسان. وتتزايد بحقهم بشكل ملحوظ حالات الاعتداءات الجسدية والتعذيب النفسي، بما في ذلك واقعة اعتداء جنسي شنيعة قام بها جندي إسرائيلي ضد أحد الأسرى. وقد أحيط هذا المعسكر بالكثير من السرية والتكتم الشديدين إلى أن كُشف أمره أخيرًا بفضل جهود المنظمات الحقوقية. ومنعت إسرائيل بشكل تعسفي اللجنة الدولية للصليب الأحمر من زيارة المعسكر والاطلاع على أوضاع وظروف المعتقلين الذين يُقدر عددهم بالمئات.

والجدير بالذكر أن التحقيق في مجزرة "سدي تيمان" المروعة جاء في أعقاب التماس تقدمت به مجموعة من المنظمات الحقوقية الإسرائيلية المرموقة إلى المحكمة العليا، وهي جمعيات "حقوق المواطن"، و"أطباء لحقوق الإنسان"، و"مركز حماية الأفراد"، و"لجنة مناهضة التعذيب في إسرائيل"، بالإضافة إلى منظمة "مسلك-جيشا" التي تطالب بحرية تنقل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وقد استجابت المحكمة العليا لهذا الالتماس وأمرت بإغلاق المعسكر بشكل فوري، ووقف جميع أشكال التعذيب التي يتعرض لها الأسرى، ونقلهم على وجه السرعة إلى سجن النقب الصحراوي المعروف باسم "كتسيعوت".

إن الشهادات الموثقة التي وصلت إلينا بشأن ما يجري في هذا المعسكر الرهيب ضد الأسرى والمعتقلين تبعث على الفزع الشديد، وتكشف النقاب عن أن التعذيب الذي يمارس هناك ممنهج ووحشي بصورة لم تسجل من قبل في أقسى سجون العالم قمعًا، مثل معتقل غوانتانامو سيئ السمعة أو سجن أبو غريب.

كان الأسرى في هذا السجن يُحتجزون في أقفاص حديدية صدئة في مناطق صحراوية مفتوحة، دون توفير الحد الأدنى من الظروف الإنسانية الضرورية للبقاء على قيد الحياة، ولم يكن المستشفى الميداني المتهالك الموجود في المعسكر يقدم لهم الرعاية الطبية اللازمة والضرورية، حيث أُجريت لبعض الأسرى الجرحى عمليات جراحية مؤلمة دون تخدير، وتسببت القيود الحديدية الضيقة في بتر أطراف بعضهم. كما ذكرت التقارير الموثوقة أن الأسرى يتعرضون بشكل ممنهج للضرب المبرح والتنكيل والتعذيب الشديد، ليس بناءً على شبهات أو معلومات استخباراتية حقيقية ضدهم، بل لمجرد الانتقام الهمجي لعملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وقد استشهد ما لا يقل عن ثمانية وأربعين أسيرًا فلسطينيًا نتيجة لهذا التعذيب الوحشي، معظمهم من قطاع غزة المحاصر.

وكشفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" المرموقة بعضًا من أشكال التعذيب المروع الذي يمارس في هذا المعسكر، والذي لا يستثني الأطفال الصغار، وهو يتضمن إيثاق أطرافهم وهم عراة تمامًا، وذلك لالتقاط صور ومقاطع فيديو مهينة ومن ثم نشرها على نطاق واسع من قبل الجنود على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. ووصفت المنظمة هذه الأفعال المشينة بأنها "معاملة غير إنسانية واعتداء صارخ على الكرامة الشخصية"، مؤكدة أنها ترقى إلى مستوى جرائم حرب خطيرة وأعمال عنف جنسي ممنهج.

قطع الطريق على أي تحقيق دولي

يثير قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بإغلاق معسكر "سدي تيمان" سيئ السمعة أسئلة جوهرية كثيرة حول مدى جديته ورغبة إسرائيل الحقيقية في احترام القواعد الدولية الراسخة. إذ إن العديد من المراقبين المحايدين يعتبرون المنظومة القضائية الإسرائيلية إحدى الأدوات الرئيسية التي يستخدمها الاحتلال لتقنين الاعتقال التعسفي والتعذيب الممنهج، في الوقت الذي تغض فيه الطرف عن آلاف أوامر الاعتقال الإداري الجائرة وهدم المنازل الفلسطينية وبناء الجدار العنصري العازل... فما الذي دفعها إذن إلى تغيير هذا النهج المتجذر واتخاذ قرار مفاجئ كهذا؟

تكمن الإجابة على هذا السؤال في أن مبدأ "التكامل" يعد حجر الزاوية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وينص هذا المبدأ الهام على أن تكون الأولوية المطلقة في فض المنازعات هي للقضاء الوطني، وفي حال عجز أو امتناع القضاء الوطني عن ممارسة اختصاصه بشكل فعال، ينتقل الاختصاص تلقائيًا إلى المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها قضاءً مكملاً. ويرسم هذا المبدأ بوضوح الحدود الفاصلة بين اختصاص القضاء الجنائي الوطني والدولي، ويطرح تساؤلات جوهرية حول دور المحكمة الجنائية الدولية في الرقابة الحازمة على القضاء الوطني وعلاقته الوثيقة بالقوانين الوطنية وتأثيره العميق على السيادة الوطنية، بالإضافة إلى مبدأ عدم المحاكمة مرتين عن نفس الجريمة.

وبناءً على ذلك، فإن قرار المحكمة العليا بإغلاق معسكر "سدي تيمان" المثير للجدل وتوزيع الأسرى على سجون رسمية معترف بها، ثم إرسال الشرطة العسكرية إلى المعسكر للتحقيق مع الجنود المتهمين بارتكاب انتهاكات خطيرة، يوحي ظاهريًا بأن إسرائيل جادة في التحقيق في هذه الانتهاكات المزعومة وتوقيع العقوبات المناسبة على المسؤولين عنها، وذلك من أجل منع تكرارها في المستقبل. كما أن اقتحام المركز من قبل متطرفين يمينيين متشددين يوحي بأن هذه الانتهاكات فردية ومعزولة وليست منهجية ومنظمة، وأن دولة إسرائيل ملتزمة بالكامل بإجراء تحقيق شامل وشفاف في هذه القضية.

إن هذا السلوك، بقدر ما يعبر عن دهاء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في التحايل على القانون الدولي والتلاعب به، فإنه مثير للسخرية والاشمئزاز أيضًا. إذ إن تاريخ إسرائيل حافل بالتحقيقات واللجان التي لا تنتهي ولا تصل إلى أي نتيجة ملموسة. والأمر بهذه الصورة لا يعدو كونه مجرد عملية تهدف إلى إضاعة الوقت الثمين ومحاولة يائسة للتشويش على الحقيقة الساطعة وتعطيل مسار العدالة.

هل تذهب جريمة "سدي تيمان" إذن، دون عقاب؟

نظريًا، توجد إمكانية لتحميل كبار المسؤولين والقادة العسكريين المسؤولية الجنائية الكاملة عن هذه الجرائم المروعة، سواء عبر محكمة إسرائيلية مستقلة ونزيهة أو عبر المحكمة الجنائية الدولية. ولكننا نعلم جميعًا على أرض الواقع أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قد طلب في شهر مايو/أيار من عام 2023 إصدار أوامر توقيف من الغرفة التمهيدية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ولكن هذه المذكرات لم تصدر رسميًا حتى الآن. وسيبقى كذلك أن هناك شركاء متورطين في هذه الجريمة الشنعاء من كبار المسؤولين الذين اختاروا تجاهلها بشكل متعمد وعدم فتح التحقيقات اللازمة في الوقت المناسب.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة